غزة - خاص قدس الإخبارية: الوقت في النظام الاستعماري من أهم أدوات الضبط والسيطرة على الشعوب. عندما تقف على الحاجز العسكري لساعات فإن الفكرة ليست فقط تكريس فكرة الوجود والسيطرة المباشرة في وعي الفلسطينيين، وإنما كذلك التحكم في الزمن الاجتماعي والاقتصادي والنفسي للفرد الفلسطيني.
أيضا، يرى بعض الباحثين أن تجميد أجساد الشهداء في ثلاجات الموتى هو فعل إسرائيلي يهدف للتحكم في السياق الزمني للموت لدى الفلسطيني، فهو يقتلك بيولوجيا ثم يبقيك في مساحة رمادية ما بين الموت كحقيقة والحياة كمظاهر مادية.
وفي قلب أدوات الضبط هذه، فكرة الاعتقال، فهو لا يهدف فقط لمعاقبة الفلسطينيين بل أيضا التحكم في الزمن والقدر الفلسطيني، ومن أبلغ الأمثلة على ذلك؛ الاعتقال الإداري الذي لا يمنحك أي تصور حول الفترة التي يمكن أن تقضيها في المعتقل، لدرجة الاعتقاد أن قرار ضابط إسرائيلي هو الحد الفاصل بينك وبين زواجك أو إنهاء مرحلة تعليمية في حياتك أو لقاءك بأهلك وأطفالك.
ويلفت الانتباه في سياق الاعتقال، أن المحكومين بالسجن المؤبد يكتب لهم في ملفهم التعريفي؛ تاريخ الإفراج: 00000000، وهذه أيضًا تخدم الفكرة التي نتحدث حولها.
"إسرائيل" هي بمثابة نظام ينتج أدوات الضبط، وكذلك يستنسخها من تجارب أنظمة أخرى. بالتوازي، تغرس هذه الأنظمة لدى جمهورها فكرة أنها هي الوحيدة القادرة على تشكيل المشهد ككل وضبط تفاصيله ومعطياته، وتولي لهذه الفكرة أهمية كبيرة في جهدها العسكري والسياسي والأمني والإعلامي.
يتشبع هذا الجمهور بهذه الفكرة إلى الحد الذي يرفض فيه أن يرى أي محاولات للتأثير في المعادلات من طرف العدو الخصم. وهنا تكمن الفجوة التي تتقن المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس الاستثمار فيها لضرب البنية الاعتقادية للجمهور الإسرائيلي حول قدرة منظومته في ضبط الفلسطيني.
في المشاهد التي توالت من قطاع غزة بعد إعلان وقف إطلاق النار، أتقنت حركة حماس في اختراق الإدراك الذاتي لكل إسرائيلي. تكاد لا تجد محللا أو كاتبا أو صحفيا أو ناشطا لم ينشر صور مقاتلي كتائب الشهيد عز الدين القسام وهو يتجولون في شوارع بعض المدن في قطاع غزة.
كانت هذه الصور ومقاطع الفيديو كافية لإثارة سؤال حول "اليوم التالي في غزة". إن هذا التعبير بحد ذاته يكشف عن هوس الإسرائيلي في الضبط الآني والمستقبلي للفلسطيني وخياراته، حتى الالتفاف الجماهيري حول المقاومين، اهتم به الإسرائيليون لأنهم فشلوا في التأثير في وعي الغزيين رغم كل ما حملته حرب الإبادة من معاناة.
المشهد الآخر، هو انتشار العناصر الأمنية في شوارع قطاع غزة وتصريحها بقدرتها على ضبط الحالة هناك. مست هذه المشاهد في جوهر الهدف الإسرائيلي للحرب بتحييد حركة حماس عن حكم قطاع غزة.
لقد أثار ذلك تساؤلات لدى كبار المحللين والخبراء الإسرائيليين حول جدوى الفعل العسكري الإجرامي الإسرائيلي الذي طال كل شيء في غزة. الجدوى بالنسبة لهم، قطاع خال من عناصر أمنية شكّلت على مدار سنوات جدارا صلبا للمقاومة الفلسطينية.
لكن أكثر ما توقف عنده الإسرائيليون هو قرارات الإفراج المكتوبة التي سلمتها كتائب القسام للإسرائيليات الثلاث المفرج عنهم. تاريخ الاعتقال كان قرار من قيادة المقاومة، وكذلك تاريخ الإفراج وبينهما الزمن الذي قضته الأسيرات لدى القسام بكل ما يحمل من تفاصيله.
هذا مشهد سيطرة وضبط متكامل الأركان لزمن المستوطن الإسرائيلي وقدره. إنها الميزة التي يحاول الاحتلال أن يحتكرها لنفسه، لكن المقاومة بنفس الأدوات حاولت الوصول للوعي الجمعي الإسرائيلي.
إحدى الرسائل المفترضة لهذه الأوراق، هو تأكيد على الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في تحديد أماكن هؤلاء الأسرى رغم كل الإمكانيات التكنولوجية والبشرية والعسكرية للاحتلال. وأيضا، تأكيد على فشل قدرة آلة الدمار الإسرائيلية في الضغط على مواقف المقاومة الفلسطينية أو ما يعرّفه الإسرائيليون بجدوى الضغط العسكري.
لقد رضخت "إسرائيل" لتاريخ الإفراج الذي حددته المقاومة، وليس لكل التواريخ التي افترضها العقل الأمني والسياسي لدى الاحتلال من خلال نظريات جنرالاته وأوهام نخبه السياسية.
وفي حالتنا الفلسطينية، تستخدم هذه الأوراق للحصول على إثبات بفترة الاعتقال والتبعات المترتبة على ذلك من مؤسسات الأسرى أو المؤسسات القانونية.
أما في الحالة الإسرائيلية، ستبقى هذه الأوراق خالدة في الذاكرة الجمعية الإسرائيلية على فشل كبير وكارثة حلّت في يوم من الأيام ليس فقط في أرواح وبيوت ومزارع المستوطنين، وإنما أيضا في أفكارهم وسردياتهم وتصوراتهم وأحلامهم وقيمهم. ستبقى كجزء مفسّر لنهاية الحرب، ليست "إسرائيل" من تضبط المشهد وحدها، وإنما كذلك كتائب القسام ومعها فصائل المقاومة الفلسطينية ككل.